المجتمع
الظالم لنفسه
الحمد
لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين
الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع
أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم
أيها الأخوة المؤمنون والأخوات
المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
من
جملة أطراف الظلم، ظلم المجتمع لنفسه،
هناك ما حدثنا عنه الله سبحانه وتعالى
في سيرة الأنبياء عن ظلم القرية لنفسها،
بحيث يلتقي المجتمع على بعض أنماط
السلوك المنحرف، سواء على المستوى
الفكري في العقيدة، أو على المستوى
الاجتماعي والاقتصادي، بحيث يتحوَّل
المجتمع إلى مجتمع يتحرك في الخط الذي
يظلم فيه نفسه من خلال النتائج السيئة
التي تحدث له في سلوكه وفي كل أوضاعه،
على مستوى العلاقات بين أفراده، وعلى
مستوى المعاملات، وعلى مستوى انعكاسه
السلبي على الناس من حوله ضمن هذا
العنوان، نلتقي بالقصة التي حدثنا الله
عنها عن قرية النبي شعيب.
هذا
النبي الذي أرسله الله إلى هذه القرية،
بحيث لم تكن نبوّته نبوةً شاملة، بل
كانت نبوّةً محدودة في حدود هذه القرية
كنبوّة بعض الأنبياء، لأن الأنبياء على
قسمين، فهناك أنبياء أولو عزم، وهم
أصحاب الشرائع التي تمتد إلى أبعد من
المكان الذي يعيشون فيه، مثل نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص)، وهناك
أنبياء محلّيون مثل شعيب وصالح وهود
ولوط ويوسف، وربما أيضاً يعقوب، فهؤلاء
أنبياء محليون يتحركون في الخط الذي
يسيرون عليه على أساس الشريعة العامة من
خلال النبي الذي كان يسبقهم، والذي يعيش
في الفترة التي يعيشون فيها، وهؤلاء
الأنبياء المحليون إنماً يرسلون غالباً
لمعالجة مشكلة عامة تتصل بالانحراف
الأخلاقي تارةً، مثل الانحراف الجنسي
في مسألة لوط، أو بالانحراف الاقتصادي
كما في قضية شعيب، أو بألوان أخرى من
الانحراف. طبعاً كلهم أنبياء يدعون إلى
عبادة الله وحده بكلِّ خطوط هذه
العبادة، ولكن العنوان الكبير الذي
يرسلون فيه إلى هذه القرية، أو تلك
القرية هو عنوان المشكلة الملحّة التي
تحتاج إلى معالجة، كما في قصَّة شعيب (ع)
الذي أرسله الله لمعالجة بعض أنماط
الانحراف الاقتصادي، والذي استعرض الله
قصته في سورة هود وبين العذاب الذي
أنزله بالقرية الظالم أهلها، والظالمة
لنفسها.
ومن
هنا نستطيع أن نستوحي من هذه القصة أو من
قصة موسى (ع) أيضاً وكل القرى التي أنزل
الله بها العذاب، نستوحي أن أيّ مدينة
أو قرية ينتشر فيها وباء الانحراف عن
خطِّ الاستقامة، إن في الجانب الأخلاقي
أو الأمني أو الاقتصادي، قد ينـزل الله
بها العذاب، لا بالطريقة التي كان الله
ينـزل بها العذاب على القرى السابقة في
التاريخ، بل قد يكون هناك عذاب من فصيلة
النتائج التي تتمخَّض عنها مسالك الناس
في هذه القرية أو تلك. فلنبدأ الآن لنعرف
كيف كانت مدين قرية ظالمة، وما هو مظهر
الظلم فيها من خلال قوله تعالى، {وإلى
مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا
الله ما لكم من إله غيره} (هود/84).
فالخطّ
العريض لرسالة الأنبياء (ع) هو أن يعبدوا
الله ولا يشركوا به شيئاً، وقد تحدّث عن
عبادة الله ولم يتحدث فقط عن الإيمان،
وركّز على أن يعبدوا الله وحده، لأنه
ربما كانت المسألة أن القوم كانوا لا
يكفرون بالله، ولكن كانوا يشركون به
غيره في العبادة، ولعل أغلب الجماعات
التي قصّها القرآن مما ابتلي بها
الأنبياء كانوا لا ينكرون ألوهية الله،
حتى إنَّ قوم النبي (ص) وهم المشركون في
مكة وما حولها، كانوا يؤمنون بالله، فهم
عندما كانوا يكتبون الوثائق كانوا
يكتبون باسمك اللهم.
وعندما
كانوا يتحدثون عن الأصنام وعن عبادتهم
لها، كانوا يقولون: {ما نعبدهم إلا
ليقرّبونا إلى الله زُلفى} (الزمر/3)،
لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام
فيها أسرار خفيَّة تجعلها قريبة إلى
الله. فهم يعبدونها حتى ترضى عنهم
فتتوسط لهم عند الله سبحانه وتعالى
لتقرّبهم إليه، فلذلك هم كانوا مشركين
في العبادة ولم يكونوا مشركين في
الربوبية، كانوا يعتقدون بربوبية الله
الواحد، ولكن شركهم كان شركاً في
العبادة وليس شركاً في العقيدة. فربما
كان قوم شعيب في هذا الاتجاه، ولهذا
كانت دعوة شعيب إليهم كدعوة الأنبياء
الآخرين، والذي كان أيضاً العنوان
الكبير لدعوة الرسول (ص) في قوله تعالى: {اعبدوا
الله ما لكم من إله غيره}، فهو يريد لهم
أن يؤمنوا بالله، لكن ليس ذلك الإيمان
التجريدي الذي يبقى في الفكر، بل أن
يؤمنوا بالله بحيث يتحرك الإيمان به في
كلِّ حياتهم وفي فكرهم وعقولهم وسلوكهم.
ومن
الطبيعي أن عبادة الله تمثِّل الخضوع
لله سبحانه وتعالى، بالإتيان بما
كلَّفهم به من ألوان العبادة، وبالخضوع
له بما أمرهم به ونهاهم عنه، لأن كل خضوع
لله هو عبادة له، وإن كانت تختلف بحسب
أشكالها وألوانها وما إلى ذلك، ولذلك
فقد أرادوا لهم أن يعبدوا الله وحده،
لتكون عبادة الله هي الخط المستقيم الذي
يجعلهم يسيرون في حياتهم على أساس
الالتزام بأوامر الله في ما يريد لهم أن
يفعلوه، وبنواهي الله في ما يريد لهم أن
يتركوه.
ثم
انطلق في المشكلة التي كانوا يعيشون في
داخلها ويتخبطون فيها {ولا تنقصوا
المكيال والميزان}، حيث كانت مشكلتهم ما
سمّاه القرآن التطفيف: {ويل للمطففين*
الذي إذا اكتالوا على الناس يستوفون*
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}، أي
كانوا إذا اشتروا من الناس يأخذون حقهم
كاملاً غير منقوص، ولكن إذا باعوا الناس
ينقصونهم حقهم، كما يحدث الآن عندنا،
فأغلب محطات البنـزين، ينقصون حق الناس
فيعطونهم 90%
من حقهم ويأخذون الباقي، وأيضاً هناك
كثير من الناس الذين ينقصون المكيال
والميزان عندما يبيعون الحبوب وما إلى
ذلك، هذا موجود، أي عندما يريد هو أن
يشتري يأخذ حقه 100%
كاملاً غير منقوص وعندما يبيع ينقص ما
يبيعه، ولكن الله يقول: {ويل للمطففين*
الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون*
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون* ألا يظن
أولئك أنهم مبعوثون} (المطففين/1-4)
وهذه كانت مشكلة قوم شعيب (ع).
لذا
كانت المبادرة من شعيب بأن أعطاهم الخط
العريض الذي يتحدى ما هم فيه {ولا تنقصوا
المكيال والميزان إني أراكم بخير}، أي
أنا أرى أن الله وسّع عليكم وأنتم لا
تحتاجون إلى هذه الأشياء، يوجد عندكم
فرص عمل أو تجارة أو زراعة، أنتم لستم
بحاجة إلى أن تأكلوا أموال الناس
بالباطل، {وإني أخاف عليكم عذاب يوم
محيط} (هود/84)،
أخاف عليكم عاقبة هذا السلوك المنحرف
الذي يبغضه الله، لأنه يمثِّل ظلم الناس
مما لا يرضى به الله سبحانه وتعالى، لأن
الله لا ينقص أحداً حقّه.
{ويا
قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} (هود/85)،
هناك قال لهم لا تنقصوا، وهنا يقول
أوفوا، أي أعطوه وافياً كاملاً بالقسط،
أي بالعدل، وهو أن تعطوا لكل إنسان حقه،
وأن تعطوا كل إنسان نصيبه وحظه في ما
يستحقه عليكم، لأن القسط أو العدل هو أن
تعطي كل إنسان حقه وأن لا تنقصه منه
شيئاً، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، أي
لا تنقصوا الناس أشياءهم في ما يشترون
وما يبيعون {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}،
والعثو هو أشدَّ الفساد، يعني لا تفسدوا
أشدَّ الفساد، لأن هذا يمثل طبعاً كل
أنواع إنقاص الناس حقوقهم، وهو الفساد
الاقتصادي الذي يتحوَّل إلى فساد
اجتماعي.
{بقية
الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} بقية الله،
تعني ما أبقاه الله لكم من الحلال، فهو
الذي يمدّ لكم الرزق في ما تزرعون
وتصنعون وتتاجرون، {وما أنا عليكم بحفيظ}
(هود/86)،
مسؤوليتي فقط أن أبلغكم رسالات الله
سبحانه وتعالى. وهذا كان كلام شعيب، وهو
كلام ناصح يحترم الآخرين ويعظهم
بالطريقة المنفتحة على إنسانيتهم حتى
يفكروا، ما كان رد فعلهم إلاّ أن {قالوا
يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا} (هود/87)
نريد أن نناقشك في هاتين النقطتين،
أولاً قلت لنا {اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره}، أنت تريدنا أن نعتقد بالله
الواحد ولا نعبد غيره، ونحن عندنا آلهة
وهذه الآلهة مقدسة، وهذا تراث الآباء
والأجداد، فهل هذه الصلاة التي تصلّيها
هي التي تدعوك وتأمرك بأن نترك ما يعبد
آباؤنا؟!
وهذا
يشبه حال بعض الناس عندنا، عندما تقول
لهم اتركوا هذه القضية، فيقولون لك هذه
عاداتنا، أي هذه عادات الآباء
والأجداد، وهذه تقاليدنا، حتى لو كانت
عادات وتقاليد سيئة. وهذه نقطة أكررها
دائماً، وقد حثّ الإسلام عليها، وهي أن
الله قد وهب كل إنسان العقل وزوَّده بكل
العناصر التي يمكن أن يصل من خلالها إلى
الحقيقة، وهيأ له كل الوسائل التي تمكنه
من على أن ينمّي عقله ويقوّيه ويحركه في
الاتجاه السليم، فعقل والدك شيء وعقلك
شيء آخر، وعقل والدتك شيء وعقلك شيء
آخر، لا تستعبد عقلك لعقول الآخرين، ضم
عقلك إلى عقولهم، وفكّر معهم، ولا تدع
عقلك ينحني لعقول الآخرين لأنهم قالوا
ذلك، بل لأنك اقتنعت بذلك، وعندما نسمع
من الآخرين علينا أن نقتنع ونتبعهم إذا
اقتنعنا، أمَّا إذا لم نقتنع، فعلينا أن
نرى ما هو الذي يقنعنا. لذلك أعطانا الله
عقلاً، وقال للإنسان إني سأحاسبك يوم
القيامة على أساس قناعاتك، وعندما تكون
وحدك بعيداً عن والدك ووالدتك وعائلتك
وجماعتك، فلا أحد يأتي معك: {وكلهم آتيه
يوم القيامة فرداً} (مريم/95)
{يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل/111)،
فأنت عليك أن تدافع عن نفسك بحسب
قناعاتك، والله تعالى سيسألك عن الأساس
الذي انطلقت منه... ولماذا أيدت أو رفضت.
نحن
الآن يوجد عندنا عادات وتقاليد وأفكار،
لربّما كان السابقون معذورين فيها أو
غير معذورين، لكن لا يجوز لنا أن
نتّبعها لمجرد أن آباءنا كانوا عليها، {أولو
كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}
(البقرة/170)
{أولو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه
آباءكم}، (الزخرف/24)
قيمة الإسلام تتمثل في ما أعطاه الله
للإنسان من عقلٍ حرّ، وقال له استعمل
حرية عقلك وتحمَّل مسؤوليته، وغداً
سيسألك الله عمّا صنعت بهذه الحرية،
ومشكلة هؤلاء الناس أنهم أغلقوا عقولهم
ولم يفكروا في ما كان عليه آباؤهم هل هو
حقٌّ أم باطل. وهذا أمر موجود عندنا في
الشرق، فنحن نقدّس كل قديم، وكل ما جاء
عن الآباء والأجداد، مع أن آباءنا
وأجدادنا غير مقدسين، كما أننا غير
مقدسين. فكما أنّ فينا الخيِّر والشرير،
ومن يفهم ومن لا يفهم كذلك كان آباؤنا
وأجدادنا. ومجرد التقدم في الزمن لا
يجعل الزمن مقدّساً، والله قص لنا عن
الماضي ماضي الأمم بكل ما فيه من خير
وشر، فهذه الفكرة يجب أن نبقيها في
أذهاننا، حتى نعرف كيف نقابل ربنا غداً
عندما نقف بين يديه.
ولذا
أنا دائماً أؤكد عليكم أن لا تطيعوا أي
إنسان يقول لكم لا تفكروا. نعم، يجب على
كل إنسان أن يفكر ويحاول أن يسمع أفكار
الآخرين، وهذا لا يعني أن يتحول إلى شخص
مغرور بنفسه، بل فكروا مع الناس،
وحاولوا أن تدرسوا أفكار الآخرين، ولا
تقولوا للآخرين فكروا لنا وأعطونا
تعليمات، قولوا فكروا معنا أو لنفكر
معكم، لأنّ من شاور الرجال شاركها في
عقولها، حتى تنهض الأمة، وحتى يصبح
عندنا جيل يفكر. وعندما يفكر الجيل
يُبدع وينتج، وعندما ينتج يستطيع أن
يساوي الأمم، فالأمم تقدمت علينا بعدما
كنّا سابقاً متقدمين عليها، لأن الأمم
فكرت وبقينا مكاننا.
{قالوا
يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا} ثم أنت تقول لنا {ولا تنقصوا
المكيال والميزان أوفوا المكيال
والميزان بالقسط}، فهذه أموالنا نصنع
بها ما نشاء، فأنا أملك هذا المال أشتري
به خمراً أو ألعب به قماراً، أو أسيء به
للاقتصاد العام أو كذا، فلماذا تتدخل
أنت بهذا الموضوع، أصلاتك تأمرك بأن
تحدد لنا حركة أموالنا؟ نحن نريد أن
نربح، وإذا لم نستغل الناس فنأخذ من هذا
ومن ذاك، فكيف لنا أن نحصل على ربح، {إنك
لأنت الحليم الرشيد}، كنا نعتقد أنك
عاقل، وأنك إنسان حليم وواسع الصدر
وعندك رُشد عقلي وروحي، فالإنسان
العاقل لا يتكلم مثل هذا الكلام، أين
أصبح عقلك أنت؟
وهكذا
هي أساليب بعض الناس، عندما تتكلم بأي
شيء يتعارض معهم فيقولون كيف يا فلان
أنت عاقل وتفهم وأنت طيب كيف تتكلم بهذا
الكلام؟ هذا من باب حرب الأعصاب حتى
تسقط أمام هذا الأسلوب.
انتبهوا،
هناك البعض من الناس يأتي ويوحي لك كأنك
أخطأت خطأً يجب أن تتراجع عنه حتى لا
تفقد مكانتك، فهذا أسلوب من أجل إسقاطك
تحت تأثيرهم، وهذا كان رد فعلهم، فماذا
كان رد فعل شعيب (ع)؟!
والحمد
لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته..
الظالم لنفسه
الحمد
لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين
الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع
أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم
أيها الأخوة المؤمنون والأخوات
المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
من
جملة أطراف الظلم، ظلم المجتمع لنفسه،
هناك ما حدثنا عنه الله سبحانه وتعالى
في سيرة الأنبياء عن ظلم القرية لنفسها،
بحيث يلتقي المجتمع على بعض أنماط
السلوك المنحرف، سواء على المستوى
الفكري في العقيدة، أو على المستوى
الاجتماعي والاقتصادي، بحيث يتحوَّل
المجتمع إلى مجتمع يتحرك في الخط الذي
يظلم فيه نفسه من خلال النتائج السيئة
التي تحدث له في سلوكه وفي كل أوضاعه،
على مستوى العلاقات بين أفراده، وعلى
مستوى المعاملات، وعلى مستوى انعكاسه
السلبي على الناس من حوله ضمن هذا
العنوان، نلتقي بالقصة التي حدثنا الله
عنها عن قرية النبي شعيب.
هذا
النبي الذي أرسله الله إلى هذه القرية،
بحيث لم تكن نبوّته نبوةً شاملة، بل
كانت نبوّةً محدودة في حدود هذه القرية
كنبوّة بعض الأنبياء، لأن الأنبياء على
قسمين، فهناك أنبياء أولو عزم، وهم
أصحاب الشرائع التي تمتد إلى أبعد من
المكان الذي يعيشون فيه، مثل نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص)، وهناك
أنبياء محلّيون مثل شعيب وصالح وهود
ولوط ويوسف، وربما أيضاً يعقوب، فهؤلاء
أنبياء محليون يتحركون في الخط الذي
يسيرون عليه على أساس الشريعة العامة من
خلال النبي الذي كان يسبقهم، والذي يعيش
في الفترة التي يعيشون فيها، وهؤلاء
الأنبياء المحليون إنماً يرسلون غالباً
لمعالجة مشكلة عامة تتصل بالانحراف
الأخلاقي تارةً، مثل الانحراف الجنسي
في مسألة لوط، أو بالانحراف الاقتصادي
كما في قضية شعيب، أو بألوان أخرى من
الانحراف. طبعاً كلهم أنبياء يدعون إلى
عبادة الله وحده بكلِّ خطوط هذه
العبادة، ولكن العنوان الكبير الذي
يرسلون فيه إلى هذه القرية، أو تلك
القرية هو عنوان المشكلة الملحّة التي
تحتاج إلى معالجة، كما في قصَّة شعيب (ع)
الذي أرسله الله لمعالجة بعض أنماط
الانحراف الاقتصادي، والذي استعرض الله
قصته في سورة هود وبين العذاب الذي
أنزله بالقرية الظالم أهلها، والظالمة
لنفسها.
ومن
هنا نستطيع أن نستوحي من هذه القصة أو من
قصة موسى (ع) أيضاً وكل القرى التي أنزل
الله بها العذاب، نستوحي أن أيّ مدينة
أو قرية ينتشر فيها وباء الانحراف عن
خطِّ الاستقامة، إن في الجانب الأخلاقي
أو الأمني أو الاقتصادي، قد ينـزل الله
بها العذاب، لا بالطريقة التي كان الله
ينـزل بها العذاب على القرى السابقة في
التاريخ، بل قد يكون هناك عذاب من فصيلة
النتائج التي تتمخَّض عنها مسالك الناس
في هذه القرية أو تلك. فلنبدأ الآن لنعرف
كيف كانت مدين قرية ظالمة، وما هو مظهر
الظلم فيها من خلال قوله تعالى، {وإلى
مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا
الله ما لكم من إله غيره} (هود/84).
فالخطّ
العريض لرسالة الأنبياء (ع) هو أن يعبدوا
الله ولا يشركوا به شيئاً، وقد تحدّث عن
عبادة الله ولم يتحدث فقط عن الإيمان،
وركّز على أن يعبدوا الله وحده، لأنه
ربما كانت المسألة أن القوم كانوا لا
يكفرون بالله، ولكن كانوا يشركون به
غيره في العبادة، ولعل أغلب الجماعات
التي قصّها القرآن مما ابتلي بها
الأنبياء كانوا لا ينكرون ألوهية الله،
حتى إنَّ قوم النبي (ص) وهم المشركون في
مكة وما حولها، كانوا يؤمنون بالله، فهم
عندما كانوا يكتبون الوثائق كانوا
يكتبون باسمك اللهم.
وعندما
كانوا يتحدثون عن الأصنام وعن عبادتهم
لها، كانوا يقولون: {ما نعبدهم إلا
ليقرّبونا إلى الله زُلفى} (الزمر/3)،
لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام
فيها أسرار خفيَّة تجعلها قريبة إلى
الله. فهم يعبدونها حتى ترضى عنهم
فتتوسط لهم عند الله سبحانه وتعالى
لتقرّبهم إليه، فلذلك هم كانوا مشركين
في العبادة ولم يكونوا مشركين في
الربوبية، كانوا يعتقدون بربوبية الله
الواحد، ولكن شركهم كان شركاً في
العبادة وليس شركاً في العقيدة. فربما
كان قوم شعيب في هذا الاتجاه، ولهذا
كانت دعوة شعيب إليهم كدعوة الأنبياء
الآخرين، والذي كان أيضاً العنوان
الكبير لدعوة الرسول (ص) في قوله تعالى: {اعبدوا
الله ما لكم من إله غيره}، فهو يريد لهم
أن يؤمنوا بالله، لكن ليس ذلك الإيمان
التجريدي الذي يبقى في الفكر، بل أن
يؤمنوا بالله بحيث يتحرك الإيمان به في
كلِّ حياتهم وفي فكرهم وعقولهم وسلوكهم.
ومن
الطبيعي أن عبادة الله تمثِّل الخضوع
لله سبحانه وتعالى، بالإتيان بما
كلَّفهم به من ألوان العبادة، وبالخضوع
له بما أمرهم به ونهاهم عنه، لأن كل خضوع
لله هو عبادة له، وإن كانت تختلف بحسب
أشكالها وألوانها وما إلى ذلك، ولذلك
فقد أرادوا لهم أن يعبدوا الله وحده،
لتكون عبادة الله هي الخط المستقيم الذي
يجعلهم يسيرون في حياتهم على أساس
الالتزام بأوامر الله في ما يريد لهم أن
يفعلوه، وبنواهي الله في ما يريد لهم أن
يتركوه.
ثم
انطلق في المشكلة التي كانوا يعيشون في
داخلها ويتخبطون فيها {ولا تنقصوا
المكيال والميزان}، حيث كانت مشكلتهم ما
سمّاه القرآن التطفيف: {ويل للمطففين*
الذي إذا اكتالوا على الناس يستوفون*
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}، أي
كانوا إذا اشتروا من الناس يأخذون حقهم
كاملاً غير منقوص، ولكن إذا باعوا الناس
ينقصونهم حقهم، كما يحدث الآن عندنا،
فأغلب محطات البنـزين، ينقصون حق الناس
فيعطونهم 90%
من حقهم ويأخذون الباقي، وأيضاً هناك
كثير من الناس الذين ينقصون المكيال
والميزان عندما يبيعون الحبوب وما إلى
ذلك، هذا موجود، أي عندما يريد هو أن
يشتري يأخذ حقه 100%
كاملاً غير منقوص وعندما يبيع ينقص ما
يبيعه، ولكن الله يقول: {ويل للمطففين*
الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون*
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون* ألا يظن
أولئك أنهم مبعوثون} (المطففين/1-4)
وهذه كانت مشكلة قوم شعيب (ع).
لذا
كانت المبادرة من شعيب بأن أعطاهم الخط
العريض الذي يتحدى ما هم فيه {ولا تنقصوا
المكيال والميزان إني أراكم بخير}، أي
أنا أرى أن الله وسّع عليكم وأنتم لا
تحتاجون إلى هذه الأشياء، يوجد عندكم
فرص عمل أو تجارة أو زراعة، أنتم لستم
بحاجة إلى أن تأكلوا أموال الناس
بالباطل، {وإني أخاف عليكم عذاب يوم
محيط} (هود/84)،
أخاف عليكم عاقبة هذا السلوك المنحرف
الذي يبغضه الله، لأنه يمثِّل ظلم الناس
مما لا يرضى به الله سبحانه وتعالى، لأن
الله لا ينقص أحداً حقّه.
{ويا
قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} (هود/85)،
هناك قال لهم لا تنقصوا، وهنا يقول
أوفوا، أي أعطوه وافياً كاملاً بالقسط،
أي بالعدل، وهو أن تعطوا لكل إنسان حقه،
وأن تعطوا كل إنسان نصيبه وحظه في ما
يستحقه عليكم، لأن القسط أو العدل هو أن
تعطي كل إنسان حقه وأن لا تنقصه منه
شيئاً، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، أي
لا تنقصوا الناس أشياءهم في ما يشترون
وما يبيعون {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}،
والعثو هو أشدَّ الفساد، يعني لا تفسدوا
أشدَّ الفساد، لأن هذا يمثل طبعاً كل
أنواع إنقاص الناس حقوقهم، وهو الفساد
الاقتصادي الذي يتحوَّل إلى فساد
اجتماعي.
{بقية
الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} بقية الله،
تعني ما أبقاه الله لكم من الحلال، فهو
الذي يمدّ لكم الرزق في ما تزرعون
وتصنعون وتتاجرون، {وما أنا عليكم بحفيظ}
(هود/86)،
مسؤوليتي فقط أن أبلغكم رسالات الله
سبحانه وتعالى. وهذا كان كلام شعيب، وهو
كلام ناصح يحترم الآخرين ويعظهم
بالطريقة المنفتحة على إنسانيتهم حتى
يفكروا، ما كان رد فعلهم إلاّ أن {قالوا
يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا} (هود/87)
نريد أن نناقشك في هاتين النقطتين،
أولاً قلت لنا {اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره}، أنت تريدنا أن نعتقد بالله
الواحد ولا نعبد غيره، ونحن عندنا آلهة
وهذه الآلهة مقدسة، وهذا تراث الآباء
والأجداد، فهل هذه الصلاة التي تصلّيها
هي التي تدعوك وتأمرك بأن نترك ما يعبد
آباؤنا؟!
وهذا
يشبه حال بعض الناس عندنا، عندما تقول
لهم اتركوا هذه القضية، فيقولون لك هذه
عاداتنا، أي هذه عادات الآباء
والأجداد، وهذه تقاليدنا، حتى لو كانت
عادات وتقاليد سيئة. وهذه نقطة أكررها
دائماً، وقد حثّ الإسلام عليها، وهي أن
الله قد وهب كل إنسان العقل وزوَّده بكل
العناصر التي يمكن أن يصل من خلالها إلى
الحقيقة، وهيأ له كل الوسائل التي تمكنه
من على أن ينمّي عقله ويقوّيه ويحركه في
الاتجاه السليم، فعقل والدك شيء وعقلك
شيء آخر، وعقل والدتك شيء وعقلك شيء
آخر، لا تستعبد عقلك لعقول الآخرين، ضم
عقلك إلى عقولهم، وفكّر معهم، ولا تدع
عقلك ينحني لعقول الآخرين لأنهم قالوا
ذلك، بل لأنك اقتنعت بذلك، وعندما نسمع
من الآخرين علينا أن نقتنع ونتبعهم إذا
اقتنعنا، أمَّا إذا لم نقتنع، فعلينا أن
نرى ما هو الذي يقنعنا. لذلك أعطانا الله
عقلاً، وقال للإنسان إني سأحاسبك يوم
القيامة على أساس قناعاتك، وعندما تكون
وحدك بعيداً عن والدك ووالدتك وعائلتك
وجماعتك، فلا أحد يأتي معك: {وكلهم آتيه
يوم القيامة فرداً} (مريم/95)
{يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل/111)،
فأنت عليك أن تدافع عن نفسك بحسب
قناعاتك، والله تعالى سيسألك عن الأساس
الذي انطلقت منه... ولماذا أيدت أو رفضت.
نحن
الآن يوجد عندنا عادات وتقاليد وأفكار،
لربّما كان السابقون معذورين فيها أو
غير معذورين، لكن لا يجوز لنا أن
نتّبعها لمجرد أن آباءنا كانوا عليها، {أولو
كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}
(البقرة/170)
{أولو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه
آباءكم}، (الزخرف/24)
قيمة الإسلام تتمثل في ما أعطاه الله
للإنسان من عقلٍ حرّ، وقال له استعمل
حرية عقلك وتحمَّل مسؤوليته، وغداً
سيسألك الله عمّا صنعت بهذه الحرية،
ومشكلة هؤلاء الناس أنهم أغلقوا عقولهم
ولم يفكروا في ما كان عليه آباؤهم هل هو
حقٌّ أم باطل. وهذا أمر موجود عندنا في
الشرق، فنحن نقدّس كل قديم، وكل ما جاء
عن الآباء والأجداد، مع أن آباءنا
وأجدادنا غير مقدسين، كما أننا غير
مقدسين. فكما أنّ فينا الخيِّر والشرير،
ومن يفهم ومن لا يفهم كذلك كان آباؤنا
وأجدادنا. ومجرد التقدم في الزمن لا
يجعل الزمن مقدّساً، والله قص لنا عن
الماضي ماضي الأمم بكل ما فيه من خير
وشر، فهذه الفكرة يجب أن نبقيها في
أذهاننا، حتى نعرف كيف نقابل ربنا غداً
عندما نقف بين يديه.
ولذا
أنا دائماً أؤكد عليكم أن لا تطيعوا أي
إنسان يقول لكم لا تفكروا. نعم، يجب على
كل إنسان أن يفكر ويحاول أن يسمع أفكار
الآخرين، وهذا لا يعني أن يتحول إلى شخص
مغرور بنفسه، بل فكروا مع الناس،
وحاولوا أن تدرسوا أفكار الآخرين، ولا
تقولوا للآخرين فكروا لنا وأعطونا
تعليمات، قولوا فكروا معنا أو لنفكر
معكم، لأنّ من شاور الرجال شاركها في
عقولها، حتى تنهض الأمة، وحتى يصبح
عندنا جيل يفكر. وعندما يفكر الجيل
يُبدع وينتج، وعندما ينتج يستطيع أن
يساوي الأمم، فالأمم تقدمت علينا بعدما
كنّا سابقاً متقدمين عليها، لأن الأمم
فكرت وبقينا مكاننا.
{قالوا
يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا} ثم أنت تقول لنا {ولا تنقصوا
المكيال والميزان أوفوا المكيال
والميزان بالقسط}، فهذه أموالنا نصنع
بها ما نشاء، فأنا أملك هذا المال أشتري
به خمراً أو ألعب به قماراً، أو أسيء به
للاقتصاد العام أو كذا، فلماذا تتدخل
أنت بهذا الموضوع، أصلاتك تأمرك بأن
تحدد لنا حركة أموالنا؟ نحن نريد أن
نربح، وإذا لم نستغل الناس فنأخذ من هذا
ومن ذاك، فكيف لنا أن نحصل على ربح، {إنك
لأنت الحليم الرشيد}، كنا نعتقد أنك
عاقل، وأنك إنسان حليم وواسع الصدر
وعندك رُشد عقلي وروحي، فالإنسان
العاقل لا يتكلم مثل هذا الكلام، أين
أصبح عقلك أنت؟
وهكذا
هي أساليب بعض الناس، عندما تتكلم بأي
شيء يتعارض معهم فيقولون كيف يا فلان
أنت عاقل وتفهم وأنت طيب كيف تتكلم بهذا
الكلام؟ هذا من باب حرب الأعصاب حتى
تسقط أمام هذا الأسلوب.
انتبهوا،
هناك البعض من الناس يأتي ويوحي لك كأنك
أخطأت خطأً يجب أن تتراجع عنه حتى لا
تفقد مكانتك، فهذا أسلوب من أجل إسقاطك
تحت تأثيرهم، وهذا كان رد فعلهم، فماذا
كان رد فعل شعيب (ع)؟!
والحمد
لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته..