- العدل
هدف الرسالات
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه
المنتجبين وعلى جميع الأنبياء
والمرسلين...
لقد
تناول القرآن الكريم، وفي أكثر من آية،
حركة الإنسان بالعرض والمعالجة، ومن
أبرز العناوين التي تدرس حركة علاقة
الإنسان بأبعادها الثلاثة، وهي علاقته
مع ربه وعلاقته مع نفسه ومع المجتمع، هو
عنوان العدل، وما ذكره تعالى في سورة
الحديد، يؤكد أن كل الرسالات منذ آدم
حتى نبينا محمد(ص)، كان هدفها واحد، وهو
إقامة العدل بين الناس، فالكتب
السماوية المنـزلة، من صحف إبراهيم
وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وإلى القرآن
الكريم الذي أنزله الله على قلب خاتم
الأنبياء والرسل محمد عليهم جميعاً
صلوات الله وسلامه، فإن هذه الكتب في كل
التفاصيل التي جاءت بها، كانت تؤكد
الوصول إلى هذا الهدف الكبير، وهو إقامة
العدل بين الناس، الذي جعله الله
ميزاناً للحق والباطل أو ميزاناً
للحقوق، باعتبار أن لكل شخص حقاً على
شخص آخر، كما عليه حق. وبذلك يقول الله
تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات
وأنزلنا معهم الكتاب ـ التوراة
والإنجيل والقرآن ـ والميزان ـ الذي
يحدّد للناس حقوقهم وواجباتهم ـ ليقوم
الناس بالقسط} [الحديد:25]، القسط وهو
كناية عن العدل. وهنا يرد سؤال: ما هو
العدل؟ العدل هو أن تعطي كلّ ذي حقٍّ
حقه، فالعدل مع الله هو أن تعطي الله
حقه، في أن توحِّده في العقيدة والعبادة
والطاعة ولا تشرك به أحداً، والعدل مع
النفس هو أن تقود نفسك إلى الغاية التي
تنقذ فيها نفسك، على مستوى الدنيا
والآخرة، فلا تورِّط نفسك في ما يضرها،
وفي ما يؤذيها أو يهلكها، وإلا كنت
ظالماً لنفسك.
العدل
بين الناس ، أن ننطلق من داخل البيت في
علاقة الآباء بالأبناء والعكس، وفي
العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، ثم
في العلاقة مع المحيط الخارجي كالجيران
والأقارب والأصدقاء وكل أفراد المجتمع،
ممن تحتِّم طبيعة الحياة الالتقاء بهم،
ننطلق في كل ذلك لندرس كيف نظّم
الأنبياء عبر رسالاتهم مسألة الحقوق
بين الجميع وفي المجالات كافة، بحيث لا
يظلم أحدهم الآخر، كما أنه أثار مسألة
العدل حتى مع الحيوان الذي أحلّ الله
للإنسان أكله والاستفادة منه، وبذلك
جعل له حقاً على الإنسان أن لا يحمّله
فوق قدرته وأن لا يعذّبه أثناء ذبحه.
وأيضاً
هناك مسألة العدل مع البيئة، فلا يجوز
لنا أن نضع في الأنهار المواد القاتلة
التي تقتل الحيوانات التي تعيش في
الأنهار كالأسماك، فنعمل على قتل تلك
الثروة التي تختزنها الأنهار والبحار،
وأيضاً لا يجوز لنا أن نضع النفايات
المكشوفة في الشارع بحيث تنشر الأمراض.
فالعدل
هو الأساس في كلِّ رسالات الله في
الحياة ولكل موقعٍ عدله، حتى إننا عندما
نتحدث عن نهاية العالم، فإننا نتحدث عن
الإمام الحجة(عج) الذي يملأ الأرض قسطاً
وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. قد نلتقي
بممارسة للعدل في حركة الحياة في هذا
الموقع أو ذاك، إلا أنها تبقى ممارساتٍ
جزئية، لأنها لا تعم، بينما في نهاية
المطاف، سيكون هناك عدل كلي يشمل الناس
جميعاً بحيث لا يظلم أحدٌ أحداً وينتشر
العدل في كل المواقع.
لهذا
نحن نقول لكثيرٍ من الناس الذين يؤمنون
بالإمام المهدي(عج)، إن انتظار الإمام
والإخلاص له لا يكون فقط بقراءة دعاء
الندبة أو بالحالات العاطفية، إنما في
ممارسة العدل بإيجاد مواقع للعدل، لأنّ
هدف الإمام هو أن يملأ الأرض قسطاً
وعدلاً، فهو مع العادلين وضد الظالمين،
إذا كنا نظلم بعضنا البعض، كأن يظلم
الأولاد آباءهم وأمّهاتهم، أو يظلم
الآباء والأمّهات أولادهم، ويظلم
الزوجان بعضهما البعض، يعني أنّنا
أعداء الإمام المهدي(عج)، وأنه سيحاربنا
غداً، فمهمته محاربة كل ظلم أينما حلّ،
فهو يحارب كل ظالم، سواءً كان يمارس
الظلم في بيته أو في عمله أو في أيّ
مكان، ولا يغفر هذا الظلم فيما إذا كان
الشخص يصلي ويصوم، لأن الظلم يتعارض مع
روحية الصلاة والصيام، كما أنه يأتي في
الجانب الآخر والمعاكس لمسألة الانتظار
والإعداد للإمام(ع)، لأن المسألة تكون
بإقامة العدل، وهذه تتطلّب منّا أن نربي
أنفسنا على العدل حتى نكون جنوده، وهذا
ما نقرأه في دعاء الافتتاح ـ والإشارة
كلها إلى الدولة الأخيرة ـ: "اللهم
إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها
الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق
وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى
طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها
كرامة الدنيا والآخرة"، بحيث يعدّ
الإنسان نفسه ليكون مشروع داعية إلى
الله وإلى طاعة الله، ومشروع قائد في
سبيل الله.
فعلاقتنا
به كما هي علاقتنا برسول الله(ص)، كما هي
علاقتنا بالأئمة من أهل البيت(ع)، ليست
علاقة عاطفية، بل هي علاقة قدوة وعلاقة
اتّباع وعلاقة انفتاح على المبادىء
التي انطلقوا فيها وأكدوها وجاهدوا في
سبيلها، لأن هناك فرقاً بين الحب وبين
الولاء، فهناك فرق بين أن تكون محباً
لأهل البيت(ع) كما يحب أحدنا الآخر، وبين
أن تكون موالياً لأهل البيت(ع)، فالحب
يمثل حالة عاطفية، بينما الولاء يمثل
منهجاً في العقيدة والسلوك والاقتداء.
وكثيراً
ما نلتقي بأشخاصٍ يسمعون العزاء ثم
يذهبون لشرب الخمر، أو آخر يقيم العزاء
أو المولد في بيته ثم يضرب زوجته
وأولاده من دون حق، ويظلم جاره، فأين
الحسين وأين هم؟ وأين النبي وأين هم؟
لذلك علينا أن نعدل مع كل من له حقٌ
علينا، وكما نطلب حقوقنا من الناس، يجب
علينا أن نعطي للناس حقوقهم التي
استحقوها ونعاملهم كما نحب أن نعامل،
فهل يحبُّ أحدنا أن يغتابه أحد أو يكذب
عليه أو يفتن بينه وبين المقربين منه،
أو هل يحب أحدنا أن يظلم؟ بهذا تكون
قاعدة التوازن الاجتماعي، التي تحفظ
المجتمع من الخلل، فالمجتمع يصاب
بالفوضى والخلل عندما يشعر بعض أفراده
بأنهم محرومون من حقوقهم من قِبَل
الأفراد الآخرين، وهنا تحصل المشاكل.
وأيضاً
المشاكل التي تنشأ بين الشعوب وبين
الحكام، أو بين بعض المتسلطين في
المجتمع وبين المقهورين، منشأها كلّها
الظلم. لذلك نجد أن الرسالات كلها قد
قامت على أساس العدل، وأن يكون الإنسان
مسلماً، معناه أن يكون عادلاً، لأن
الأساس في الإسلام هو العدل، فإذا لم
يكن عادلاً، فمعنى ذلك أنه لا يرتكز على
قاعدة الإسلام، هذه نقطة ينبغي أن
نفهمها بشكل أساسي، والقرآن لم يتحدث عن
شيء كما تحدث عن العدل. اليوم تحدثنا عن
عدل الرسالات، وسوف نتحدث في الأسبوع
المقبل إنشاء الله عن عدل الله مع
عباده، لأنّ من صفاته العدل، وعدل
العباد مع ربهم، وظلم العباد لربهم كيف
يتمثّل، وعدل الإنسان مع نفسه وظلم
الإنسان لنفسه.
والحمد
لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.