بين هجرة الحبشة الأولى والهجرة الثانية حدث في مكة خطبٌ جلل غَيَّرَ الكثير في مسيرة الدعوة الإسلاميَّة، وقد تمثَّل في إسلام حمزة بن عبد المطَّلب عمِّ رسول الله
r، الذي كان أكثر الناس عزَّة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة، ليصبح بعد ذلك أسد الله.
ثم إسلام عمر بن الخطاب
t، بعده بثلاثة أيَّام فقط، والذي لقَّبه الرسول
r بالفاروق؛ إذ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وبين مرحلتين من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، فمنذ اللحظة الأولى لإسلامه لم يستطع عمر
t أن يكتم إيمانه، فتوجَّه لرسول الله
r وسأله: ألسنا على الحقِّ؟ قال له رسول الله
r: نعم. قال: ففيم الاختفاء؟ فوافقه رسول الله
r على الإعلان، ومِن بعدها سيبدأ ظهور الإسلام والمسلمين في مكة، وستؤدَّى الشعائرُ أمام أهل مكة في وضح النهار، وبهذا يكون عمر
t هو الذي اخْتُصَّ بدعوة الرسول
r: "اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"[26].
هذا، وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثيرٌ من المسلمين إسلامهم، ولم يجد المشركون بُدًّا من استعمال طريقة أخرى بدلاً من التعذيب، فكانت مساومة النبي
r ليكفُّوه عن دعوته؛ فقام أحد كبرائهم -وهو عتبة بن ربيعة- إلى رسول الله
r فعرض عليه المال والسيادة والمُلْكِ على قريش والعرب كلها، أو أن يحضروا له أمهر الأطباء لمعالجته إن كان ما يقوله بسبب مرض أو مسٍّ من الجنِّ... إلاَّ إن رسول الله
r أجابه بكلام الله
U، حيث قرأ آياتٍ من سورة فصلت، أُخِذَ بها عتبة وَبَهَرَتْهُ كلَّ الإبهار، فقام من فوره إلى قومه وعيناه زائغتان، حتى دخل على زعماء قريش، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجميع ما حدث، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجرِبته ويقول: لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتُموه بغيركم، وإن يَظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُم وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. وفي ذهول تامٍّ ردُّوا عليه، وقالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه. فأجابهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم[27].
حصار النبي في شعب أبي طالب
كان أبو طالب عمُّ رسول الله
r مراقِبًا للوضع من بعيد، فخشي على ابن أخيه من إيذاء قريش وبطشهم، فقرَّر أن يجمع بني عبد مناف لنصرة رسول الله وحمايته، فوافق الجميع، مسلمهم وكافرهم؛ حمية للجوار العربي، الأمر الذي أصبحت معه مكة على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقيَّة قريش حتميَّة لا مناصَ منها، وحينئذٍ أخذت قريش قرارًا خطيرًا هو المقاطعة وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كفارًا ومسلمين، واتفقوا على ألا يناكحوهم، ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله
r لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله
U أن يُفكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله
U، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلت جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلا ذكر اللَّه
U!!
وبعد هذا الحصار وفي هذه السنة -العاشرة من البعثة- مرض أبو طالب عمُّ رسول الله
r، وأحسَّ الجميع بأنه مرضُ الموت، وخافت قريش أن تُعاب بعد موته إن هي آذت رسول الله
r، فكوَّنت وفدًا من زعمائها إلى أبي طالب يعرضون عليه أن يكفُّوا عن إيذاء رسول الله ويكفَّ هو عن إيذاء آلهتهم، فما كان من رسول الله
r إلا أن قال: "يَا عَمُّ، أَفَلا تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟" قال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال: "أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ". فقال أبو جهل بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. فقال رسول الله
r في ثبات: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفَّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب! ثم إنَّ بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرَّقوا[28].
[26] الطبراني: المعجم الكبير (11657)، ورواه الترمذي عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". قال: وكان أحبهما إليه عمر. (3681). وصححه الألباني انظر: مشكاة المصابيح (6036).
[27] ابن هشام: السيرة النبوية 1/294، وابن كثير: السيرة النبوية 1/505، والسهيلي: الروض الأنف 2/45، 46.
[28] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/417.
r، الذي كان أكثر الناس عزَّة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة، ليصبح بعد ذلك أسد الله.
ثم إسلام عمر بن الخطاب
t، بعده بثلاثة أيَّام فقط، والذي لقَّبه الرسول
r بالفاروق؛ إذ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وبين مرحلتين من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، فمنذ اللحظة الأولى لإسلامه لم يستطع عمر
t أن يكتم إيمانه، فتوجَّه لرسول الله
r وسأله: ألسنا على الحقِّ؟ قال له رسول الله
r: نعم. قال: ففيم الاختفاء؟ فوافقه رسول الله
r على الإعلان، ومِن بعدها سيبدأ ظهور الإسلام والمسلمين في مكة، وستؤدَّى الشعائرُ أمام أهل مكة في وضح النهار، وبهذا يكون عمر
t هو الذي اخْتُصَّ بدعوة الرسول
r: "اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"[26].
هذا، وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثيرٌ من المسلمين إسلامهم، ولم يجد المشركون بُدًّا من استعمال طريقة أخرى بدلاً من التعذيب، فكانت مساومة النبي
r ليكفُّوه عن دعوته؛ فقام أحد كبرائهم -وهو عتبة بن ربيعة- إلى رسول الله
r فعرض عليه المال والسيادة والمُلْكِ على قريش والعرب كلها، أو أن يحضروا له أمهر الأطباء لمعالجته إن كان ما يقوله بسبب مرض أو مسٍّ من الجنِّ... إلاَّ إن رسول الله
r أجابه بكلام الله
U، حيث قرأ آياتٍ من سورة فصلت، أُخِذَ بها عتبة وَبَهَرَتْهُ كلَّ الإبهار، فقام من فوره إلى قومه وعيناه زائغتان، حتى دخل على زعماء قريش، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجميع ما حدث، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجرِبته ويقول: لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتُموه بغيركم، وإن يَظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُم وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. وفي ذهول تامٍّ ردُّوا عليه، وقالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه. فأجابهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم[27].
حصار النبي في شعب أبي طالب
كان أبو طالب عمُّ رسول الله
r مراقِبًا للوضع من بعيد، فخشي على ابن أخيه من إيذاء قريش وبطشهم، فقرَّر أن يجمع بني عبد مناف لنصرة رسول الله وحمايته، فوافق الجميع، مسلمهم وكافرهم؛ حمية للجوار العربي، الأمر الذي أصبحت معه مكة على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقيَّة قريش حتميَّة لا مناصَ منها، وحينئذٍ أخذت قريش قرارًا خطيرًا هو المقاطعة وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كفارًا ومسلمين، واتفقوا على ألا يناكحوهم، ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله
r لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله
U أن يُفكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله
U، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلت جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلا ذكر اللَّه
U!!
وبعد هذا الحصار وفي هذه السنة -العاشرة من البعثة- مرض أبو طالب عمُّ رسول الله
r، وأحسَّ الجميع بأنه مرضُ الموت، وخافت قريش أن تُعاب بعد موته إن هي آذت رسول الله
r، فكوَّنت وفدًا من زعمائها إلى أبي طالب يعرضون عليه أن يكفُّوا عن إيذاء رسول الله ويكفَّ هو عن إيذاء آلهتهم، فما كان من رسول الله
r إلا أن قال: "يَا عَمُّ، أَفَلا تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟" قال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال: "أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ". فقال أبو جهل بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. فقال رسول الله
r في ثبات: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفَّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب! ثم إنَّ بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرَّقوا[28].
[26] الطبراني: المعجم الكبير (11657)، ورواه الترمذي عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". قال: وكان أحبهما إليه عمر. (3681). وصححه الألباني انظر: مشكاة المصابيح (6036).
[27] ابن هشام: السيرة النبوية 1/294، وابن كثير: السيرة النبوية 1/505، والسهيلي: الروض الأنف 2/45، 46.
[28] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/417.