بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان الدعاء بالرحمة قاسمًا مشتركاً بين جميع الأنبياء والرسل
بل وبين جميع الخلق منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا وإلى قيام الساعة .
بل وبين جميع الخلق منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا وإلى قيام الساعة .
دعا بها آدم وحواء (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْلَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ) سورة الأعراف آية 23 .
ودعا بها سيدنا نوح (وَإلاَّ تَغْفِرْلِيْ وَتَرْحَمْنِيْ أَكُنْ مِّنَ الْخَاسِرِيْن) سورة هود آية 47 .
ودعا بها سيدنا يونس (وَنَجـِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِيْنَ) سورة يونس آية 86 .
ودعا بها سيدنا موسى (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِيْنَ) سورة الأعراف آية 155 .
ودعا بها سليمان (وَأَدْخِلْنِيْ بـِرَحْمَتِكَ فِيْ عِبَادِكَ الصَّالِحِيْنَ) سورة النمل آية 19 .
ودعا بها أصحاب الكهف (فَقَالُوْا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيـِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) سورة الكهف آية 10 .
والدعاء بالرحمة على لسان رسولنا الكريم يتكرر بأساليب مختلفة
قال تعالى (وَقُلْ رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِيْنَ) سورة المؤمنون آية 118
ومن أدعيته عليه الصلاة والسلام المأثورة (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت) رواه أبو داود بإسناد جيد ،
وقوله (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) أخرجه النسائي والحاكم وصححه الطبراني بإسناد صحيح .
وبها يدعو المؤمنون (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكَافِرِيْنَ) سورة البقرة آية 286
و (رَبَّنَا لاَتُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْهَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) سورة آل عمران آية 8 .
والرحمة هي الرقة والتعطف أي رقة القلب وعطفه،
ومن الرحمة يشتق الرحمن والرحيم وهما من أبرز أسماء الله الحسنى وأشهرها
بعد لفظ الجلالة (الله) وقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم في جميع فواتح السور
(بسم الله الرحمن الرحيم) ماعدا سورة التوبة
التي نزلت بدون البسملة ، كما ذكر اسم الرحمن واسم الرحيم منفصلين
في الكثير من الآيات القرآنية ، والمصلي يردد هذين الاسمين في صلاته المكتوبة
ما لا يقل عن أربع وثلاثين مرة في اليوم ، فهو كلما أدى ركعة قرأ فاتحة الكتاب
(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)
وهي سبع عشرة ركعة في الصلوات الخمس المفروضة على المسلم في يومه ،
فإذا أدى السنن زاد عن ذلك .(1)
والرحمن أخص من الرحيم وأكثر مبالغة منه ولذلك لا يسمى به غير الله تعالى
قال تعالى (قُلْ اَدْعُوْ اللهَ أَو ادْعُوْ الرَّحْمن) سورة الإسراء آية 110
وقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى (أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته) رواه الترمذي .
ومعناه ذو الرحمة لا نظير له فيها وهي أبعد من مقدورات العباد ،
ورحمة الرحمن تعم العالمين مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم ، بارهم وفاجرهم
أي تعم الخلق جميعًا ، ورحمة الرحيم تخص المؤمنين لقوله تعالى (وَكَانَ بــِالْمُؤْمِنِيْنَ رَحِيْمًا) سورة الأحزاب آية 43
وقيل الرحمن من ستر في الدنيا والرحيم من غفر في العقبى،
وقال عبد الله بن المبارك (الرحمن) إذا سئل أعطى و (الرحيم) إذا لم يسأل غضب،
وقال السدي (الرحمن) يكشف الكروب و (الرحيم) يغفر الذنوب .(2)
والرحمة هي قاعدة قضاء الله تعالى في خلقه ،
تشملهم وتحيطهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ،
قال تعالى في سورة النور آية 14 (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيْ مَا أَفَضْتُمْ فِيْهِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ)
وقد كتبها الله على نفسه قال تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلـٰـى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) سورة الأنعام آية 54
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لما قضى الله الخلق -وعند مسلم لما خلق الله الخلق- كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي)
وعند البخاري في رواية آخرى (إن رحمتي غلبت غضبي)
وإنه لفضل عظيم من الله أن يجعل رحمته لعباده مكتوبة عليه ،
كتبها هو على نفسه وجعلها عهدًا منه لعباده ، كما أن إخباره لعباده بما كتبه على نفسه
من رحمته والعناية بإبلاغهم بهذه الحقيقة وعلمهم بها ، هي تفضل آخر من الله عز وجل
حيث تبعث الاطمئنان في كل ما يمر بالمؤمن من ابتلاءات
بأنها ليس تخليًا من الله عز وجل عنه أو طرده جل شانه من رحمتـه
وإنما تخفى ورائها الخير كله للمؤمن ، كما أنها تضفي الثقة في أن كل زلة للمسلم
سيغفرها الله إن شاء برحمتـــه فلا ييأس أو يقنط من ذنوبه بل يجدد توبته
ويزيد من استغفاره ليعود إلى سالف عهده .
ولبيان ولتمثيل حجم الرحمة التي كتبها الله على نفسه ،
فلنعلم أن جميع أشكال وصور الرحمة التي تعيش في كنفها جميع المخلوقات
منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا وستستمر إلى يوم القيامة ،
ما هي إلا جزء واحد فقط من مائه جزء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا فمن ذلك تتراحم الخلائق حتى
ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) أخرجه الشيخان ،
وأخرج مسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة)
كما قال عليه الصلاة والسلام (إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة واحدة
فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة
أكملها الله تعالى بهذه الرحمة)
ورحمة الله سبحانه وتعالى بجميع خلقه أوسع وأشمل وأكبر من أن تحدد
أو يحصيها عدد ولا نهاية لها ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها
قال تعالى في سورة الأعراف آية 156 (ورحمتي وسعت كل شيء)
ورحمة الله تفيض على عباده جميعًا وتسعهم جميعًا وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم
وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات ،
وفي حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها
ولكننا سنذكر منها لمحات في مجالاتها الكبيرة :
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشرية ذاته ، في نشأتهم من حيث لا يعلمون
وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان
على كثير من العالمين .
وتتجلى في هدايتهم إلى الإيمان ، بإرسال الرسل إليهم ،
بالهدى كلما نسوا أو ضلوا ، وأنزل معهم الكتب السماوية ، فالقرآن الكريم رحمة
قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَّ هُدىً وَّ رَحْمَةً وَّبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِيْنَ) سورة النحل آية 89
وقال تعالى (ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَّ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ) سورة الإسراء آية 82
ففي القرآن شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت وتفتحت
لتتلقى ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان ، فيه شفاء من داء الوسوسة ومرض القلق
ونصب الحيرة، فهو يصل القلب بالله فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ،
ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين ،
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزعات الشيطان
وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار
ومن ثم هو رحمة للمؤمنين ، وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير
فهو يعصم العقل من الشطط ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ويكفه عن إنفاق طاقته
فيما لا يجدي ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجًا ومأمونًا
ويعصمه من الشطط والزلل ،
وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليمًا معافي ويدخر طاقته للإنتاج المثمر
ومن ثم هو رحمة للمؤمنين ،
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي
وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .(3)
كما أن الله تعالى أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين
قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِيْنَ) سورة الأنبياء آية 107
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما أنا رحمة مهداه) كما وصفه ربه بها ،
وقد كانت هذه الصفة هي المهيمنة على سلوكه فقال جل شأنه
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ غَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَّحِيْمٌ) سورة التوبة آية 128
بل أكد رب العالمين أن فضيلة الرحمة التي برزت في سلوكه كانت وراء النجاح العظيم
الذي حققه في ميدان الدعوة إذ يقول سبحانه وتعالى
(فَبـِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيْظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ) سورة آل عمران آية 159
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم فجعلته عليه الصلاة والسلام رحيما بهم ، لينا معهم ،
ولو كان فظًا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة
وإلى ود يسعهم وحلم لايضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى قلب كبير
يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، يحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده
دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا ،
وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس
ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ولا احتجز لنفسه شيئا
من أعراض هذه الحياة بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية
ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم ،
وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه نتيجة لما أفاض عليه
صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة وكان هذا كله رحمه من الله به وبأمته...(4)
وما أحوجنا نحن المسلمين إلى داعي وإمام يتصف بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستحق رحمة الله فتلين له قلوب العباد ويلتفون حوله ليعيدوا للإسلام ازدهاره وللمسلمين مجدهم قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) سورة الأحزاب آية 21 .
وتتجلى رحمة الله بعباده في القضاء على الفرق والاختلافات بين الناس
والتفافهم حول جماعة واحدة وفرقة واحدة قال تعالى في سورة هود الآيات 118-119
(وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَّلاَيَزَالُوْنَ مُخْتَلِفِيْنَ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ رَبُّكَ)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة
(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار،
وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة ،
والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة
وثنتان وسبعون في النار)
قيل يا رسول الله من هم ؟
قال (الجماعة)
وكثرة الاختلافات بين الناس وتنوع مذاهبهم وتعدد عقائدهم وآراءهم وخضوعها
للأهواء والمصالح الشخصية وإسلامها تارة للشرق وتارة للغرب ،
وتعصب كل فرد لرأيه يعادي به ويقاتل من أجله كل مخالف له ،
هو نذير عدم رحمة من الله ،
خاصة إذا كانت هذه الفرق داخل الصف المسلم ، بينما تصح تعدد الآراء واختلافها
إن كانت جميعها تنبع من معتقد واحد ويبتغى بها وجه الله وتهدف مصلحة الجماعة
ولا تؤدي إلى تفتيت وحدتها .
وتتجلى الرحمــة الإلهية في قاعدة التكليف قال تعالى
(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) سورة البقرة آية 286
تشير الآية الكريمة إلى رحمة الله وعدله في التكاليف التي يفرضها على المسلم
أثناء خلافته على هذه الأرض ، فهي في وسعه وعلى قدر طاقته ،
فمهما يقع على عاتقه من متاعب وأهوال فلا يضيق بها صدرا ولا يستثقلها ولا يفر منها
لأنها تعـــد استكشافـا لطاقات كامنة داخله لم يكتشفها من قبل ،
إذ ما آمن وأيقن أن ما كلف به على قدر طاقته وأن الذي فرضها عليـــه
هو أعلم بحقيقـــة طاقتـــه ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه
ومن شأن هذا التصور فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس،
أن يستجيش عــزيمـــة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلـــه في طوقــــه ،
ولو لم تكن داخله في طوقه ما كتبها الله عليــه ، فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء!
واستجاش عزيمتـــه ونفض الضعف عــن نفسه وهم همــة جـــديـــدة للوفاء،
ما دام داخلا في مقدوره ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق !
فهي التـــربيــة كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله في كل ما يكلفه ...(5)
وتتجلى رحمة الله في النفس الناهية عن السوء التي تقف حائلا دون ارتكاب المعاصي
والآثام قال تعالى (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بــِالسُّوْءِ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ رَبِّيْ) صورة يوسف آية 53
فهذه النفس الحية التي توقظ صاحبها من الغفلة، وتذكره بالله وتثبت في نفسه دائمًا الخوف منه ، والإيمان بحسابه وعقابه في الدنيا والآخرة ، فتنهى صاحبها عن السوء،
بل وتدفعه جريًا إلى الاستغفار والتوبة ، هي رحمة من الله عز وجل ،
وابتداء فسد أبواب الرذيلة والوقاية من الوقوع في المعاصي وصرف القلوب والجوارح عن الآثام وتوجيهها إلى الله من أجل مظاهر رحمة الله،
ومن رحمته بعباده أنه جلا وعلا نهي من عظمت ذنوبهم منهم وكثرت ،
عن اليأس من رحمته قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْا عَلـٰـى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوْا
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) سورة الزمر آية 53
كما تتجلى رحمته تعالى في التجاوز عن سيئاتنا إذا عمل أحدنا السوء بجهالة ثم تاب،
وفي المجازاة عن السيئة بمثلها ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها
والمضاعفة عن ذلك لم يشاء ، ومحو السيئة بالحسنة ، وفي تأخير العقاب إلى يــوم القيامـــة
قال تعالى في ســـورة فاطر آية 45 (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوْا مَا تَرَكَ عَلـٰـى ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ وَّلـٰـكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلـٰـى أَجَلٍ مُسَمًّى فإِذَاجَاءَ أَجَلُهُمْ فَإنَّ اللهَ كَانَ بِعَبَادِه بَصِيْرًا)
ويوم القيامة لا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته
حتى رسول الله كما قال عن نفسه ، فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
وتتجلى رحمة الله في النجاة من المهالك والتي لا يتنجى منها مهما اتخذ من الأسباب
إلاّ برحمة من الله،
قال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام في سورة هود آية 42 و 43
(ونَادىٰ نُوْحٌ اِبْنَه وَكَانَ فِيْ مَعْزِلٍ يَّا بُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَّعَ الْكَافِرِيْنَ
قَالَ سَآوِيْ إِلـٰـى جَبَلٍ يَعْصِمُنِيْ مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَومَ مِنْ أَمْـرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ
وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِيْنَ)
لقد اتخذ ابن سيدنا نوح من الأسباب ما يظن أنها تنجيه من أمر الله ،
فأعتقد أن الطوفان لا يبلغ رؤوس الجبال وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق ؛
ولكن سيدنا نوح وهو المُدرِك لحقيقة هذا الأمر يخبره ، بأن لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق
ولا غيرهم من الأسباب تنجي من أمر الله إلاّ من شملته رحمة الله بالعناية والحماية
وما أكثر المهالك التي تحيط بنا وتغمرنا من رأسنا حتى أخمص قدمنا ،
وما هناك أدنى بصيص في النجاة منها مالم تشملنا رحمه الله .
ورحمة الله وجدها سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما ألقاه الكفار في النار
فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب ،
كما وجدها في السجن ، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت
ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ،
كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه ،
ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور،
ووجدها الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما
ويقصون آثارهما ، وبرحمة الله نجى سيدنا هود وصالح وإبراهيم وشعيب ويونس
من مكائد قومهم ، التي دبرت للإطاحة بهم وجهض دعواتهم .
وتتمثل رحمه الله في الشفاء من الأمراض مهما اشتدت وطأتها ،
وبات البراء منها ميئوسًا ، وضرب لنا القرآن مثلاً بسيدنا أيوب فقد كان له
من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ،
فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم ابتلي في جسده يقال بالجذام في سائر بدنه ،
ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل حتى عافه الجليس
وأفرد في ناحيـــة من البلد ، ولم يبــق أحد من الناس يحنو عليـــه سوى زوجته ،
كانت تقوم بأمره في وفاء قلما ما نجد مثله في أيامنا هذه،
ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس ، فتجلت رحمة الله عليه فشفي من الأمراض ؛
بل وعوض عن ما فقده قال تعالى (وَأَيُّوْبَ إِذْ نَادٰى رَبَّه أَنّيْ مَسَّنِيَ الضُّرُ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِه مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَه وَمَثْلَهُمْ مَّعَهُمْ
رَحْمةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرٰى لِلْعَابِدِيْنَ) سورة الأنبياء الآيات 83-84.