قال أهل الكتاب : وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز وجلود الأنعام وشعر الأنعام ، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ والذهب والفضة على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب ، ولها عشر سرادقات ، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعاً ، وعرضه أربعة أذرع ولها أربعة أبواب وأطناب من حرير ودمقس مصبغ ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة ولكل زواية بابان وأبواب أخر كبيرة ، وستور من حرير مصبغ وغير دلك مما يطول ذكره ، وبعمل تابوت من خشب الشمشاز يكون بطوله ذراعين ونصفاً ، وعرضه ذراعين وارتفاعه ذراعاً ونصفاً ، ويكن مضبباً بذهب خالص من داخله وخارجه ، وله أربع حلق في أربع زواياه ، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب - يعنون صفة ملكين بأجنحة - وهما متقابلان صنعة رجل اسمه : بصليال
وأمره أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز طولها ذراعان وعرضها ذراعان ونصف ، لها ضباب ذهب وإكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب ، وأربع حلق من نواحيها من ذهب ، مغرزة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهباً وأن يعمل صحافاً ومصافي وقصاعاً على المائدة ، ويصنع منارة من الذهب دلي فيها ست قصبات من ذهب ، من كل جانب ثلاثة ، على كل قصبة ثلاثة سرج ، وليكن في المنارة أربع قناديل ، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من ذهب صنع ذلك بصليال أيضاً ، وهو الذي عمل المذبح أيضاً
ونصبت هذه القبة أول يوم من سنتهم ، وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة ، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين "
وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولاً جداً ، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم ، وكيفيته وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيئهم بيت المقدس ، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها ، ويتقربون عندها ، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها ، وينزل عمود الغمام على بابها ، فيخرون عند ذلك سجداً لله عز وجل
ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه ، ويأمره وينهاه ، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهي
وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء ، يجيء إلى قبة الزمان ، ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين ، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة
وقد كان هذا مشروعاً لهم في زمانهم ، أعنى استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلئ ، في معبدهم وعند مصلاهم ، فأما في شريعتنا فلا ، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها ، لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، للذي وكله على عمارته : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ، وقال ابن عباس : لا تزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسها
وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه ، فهذه الأمة غير مشابهة من كل قبلهم من الأمم ، إذ جمع الله هممهم في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه ، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الإشتغال والتفكير في غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة فلله الحمد والمنة
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه ، يصلون إليه وهي قبلتهم وكعبتهم ، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام ، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام
فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمر بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم ، من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن
وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده فتاه يوشع بن نون عليه السلام ، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه
والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس ، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس فكانوا يصلون إليها فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة ، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صلى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ، وكان يجعل الكعبة بين يديه ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس فصلي إليه ستة عشر - وقيل سبعة عشر -شهراً
ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهبم الخليل في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر وقبل الظهر ، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى : " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " الآيات
صدق الله العظيم